سورة الأعراف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


قلت: {أخاهم}: عطف على نوح، و{هودًا}: عطف بيان أو بدل، وكذلك {أخاهم صالحًا} وما بعده؛ حيث وقع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أرسلنا {إلى} قبيلة {عادٍ أخاهم} أي: واحد من قبيلتهم، كقولهم: يا أخا العرب، فإنه هود بن عبدالله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: هو هود بن شاح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهو ابن عم أبي عاد، وإنما أرسل إليهم منهم لأنهم أفهم لقوله، وأعرف بحاله، وأرغب في أتباعه، ثم وعظهم فقال: {يا قوم اعبدوا الله} وحده؛ {ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} عذاب الله، {قال الملأ الذين كفروا من قومه}، كان قومه أحسن من قوم نوح، إذ كان من أشرافهم من آمن به؛ كمرثد بن سعد، ولذلك قيد الملأ بمن كفر، بخلاف قوم نوح؛ لم يكن أحد منهم آمن به، فأطلق الملأ، قالوا لهود عليه السلام: {إنا لنراك في سفاهة} أي: متمكنًا في خفة العقل، راسخًا فيها، حيث فَارَقتَ دين قومك، {وإنا لنظنك من الكاذبين} في ادعاء الرسالة.
{قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من ربّ العالمين أُبلغكم رسالاتِ ربي وأنا لكم ناصح أمين}، يحتمل أن يريد أمانته على الوحي، أو أنهم كانوا قد عرفوه بالأمانة والصدق قبل الرسالة. ثم قال: {أوَ عجبتم} من {أن جاءكم ذِكرٌ من ربكم على رجل منكم لينذركم}، تقدم تفسيرها.
قال البيضاوي: وفي ذكر إجابة الأنبياء الكفرةَ عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا به والإعراض عن مقالتهم: كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله: {وأنا لكم ناصح أمين}: تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. اهـ.
ثم قال لهم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} في مساكنهم، أو خلفاء في الأرض من بعدهم بأن جعلكم ملوكًا، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى بحر عمان، خوفهم أولاً من عقاب الله، ثم ذكرهم بإنعامه؛ {وزادكم في الخلق بسطة} أي: قامة وقوة، فكانوا عظام الأجساد، فكان أصغرهم: ستين ذراعًا، وأطولهم: مائة ذراع. {فاذكروا آلاء الله} أي: نعمه، تعميم بعد تخصيص، {لعلكم تفلحون} أي: لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح، ومن شكرها: الإيمان برسولهم.
{قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونَذَرَ ما كان يعبد آباؤنا} من الأصنام، استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما وجدوا عليه آباءهم؛ انهماكًا في التقليد، وحبًا لما ألفوه مع اعترافهم بالربوبية، ولذلك قال لهم هود عليه السلام: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب}، بعد أن قالوا: {فأْتنا بما تعدنا} من العذاب {إن كنت من الصادقين} فيه.
{قال قد وقع} أي: وجب {عليكم من ربكم رجسٌ}؛ عذاب {وغضب} إرادة الانتقام، {أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي: أتجادلونيي في عبادة مسميات أسماء، ففي الكلام حذف. وأراد بقوله: {سميتموها أنتم وآباؤكم} أي: جعلتم لها أسماء، فدل ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل، وهو معنى قوله: {ما نزَّل اللهُ بها من سلطان} أي: حجة تدل على استحقاقها للعبادة، فالمجادلة يحتمل أن تكون في عبادتها، أو في تسميتها آلهة، والمراد بالاسم على الأول المسمى، وعلى الثاني: التسمية. قاله ابن جزي: {فانتظروا} نزول العذاب، الذي طلبتم حين أصررتم على العناد، {إني معكم من المنتظرين} نزوله.
قال تعالى: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} عليهم. قال القشيري: لا رتبةَ فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة، وقد أخبر سبحانه: أنه نجَّى هودًا برحمته، وكذا نجَّى الذين آمنوا معه برحمته، ليُعلَم أن النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون ابتداء فضلٍ من الله ورحمة، فما نَجَا مَن نَجَا إلا بفضل الله سبحانه وتعالى. اهـ.
{وقطعنا دابر الذين كذَّبوا بآياتنا} أي: استأصلناهم، {وما كانوا مؤمنين}، تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نَجَا وبين من هلك: هو الإيمان.
رُوِي أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم هودًا فكذبوه، وزادوا عتوا، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذٍ، مسلمهم ومشركهم، إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه قيل بن عنز، ومرثد بن سعد، في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة؛ أولاد عمليق بن لاود بن سام، وسيدهم: معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه، وهو بظاهر مكة، أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنى عليهم الجرادتان قَينَتَانِ له فلما رأى ذهولهم عما بعثوا له أهمه ذلك، واستحيا أن يكلمهم فيه؛ مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم، فعلم المغنيتين بيتين من الشعر، وأمرهما أن تغنيا به وهما:
ألاَ قَيلُ ويَحكَ قُم فَهَينِم *** لَعلَّ الله يسقِينَا الغَمَامَا
فيسقيِ أرضَ عَادٍ إنَّ عَادًا *** قَدَ امسَوا لاَ يُبِينُونَ الكَلامَا
فلما غنيتا به أزعجهم ذلك، فقال مرثد: والله لا يُسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله، سقيتم، فقالوا لمعاوية: أحبسه عنا، لا يقدمنّ معنا مكة؛ فإنه قد أتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله سحابات ثلاثًا؛ بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء: يا قيل؛ اختر لنفسك ولقومك. فقال: اخترت السوداء؛ فإنها أكثرهن ماءً، فخرجت إلىعاد من وادي المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم، فيها ريح عقيم، فأهلكتهم، رُوِي أنها لما قربت من ديارهم حملت أنعامهم في الهواء، كأنها جراد، فاستمرت عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام، شدخَت رؤوسهم إلى الحجارة حتى هلكوا جميعًا، ونجا هو والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله حتى هلكوا.
قاله البيضاوي وغيره.
وهاهنا بحث؛ وهو أن البيت إنما بناه إبراهيم عليه السلام حسبما في الصحيح، ولم تعمر مكة إلا بعد إنزال إسماعيل فيها، وهود كان قبل إبراهيم، والبيت حينئذٍ خرب، كان خربه الطوفان، فكيف يتوجهون إليه وهو لم يكن؟.
ويمكن الجواب: بأنهم كانوا يلتجؤون إلى رسومه وخربته التي بقيت بعد الطوفان؛ لأن أول من بناه آدم عليه السلام فلما خربه الطوفان بقي أثره، فكانوا يتبركون به، وفي بعض التواريخ: أن العماليق بنوه قبل إبراهيم، فكانوا يطوفون به ويتبركون، ثم هُدم، وبناه بعدهم خليل الله إبراهيم. وبهذا إن صح- يزول الإشكال. والله تعالى أعلم. وأما من قال: إن هودًا تعدد، فغير سديد.
الإشارة: قد تضمنت موعظة هود عليه السلام لقومه خصلتين، بهما النجاة من كل هول وشر، والفوز بكل خير، وهما: التوحيد والتقوى، وهي الطاعة لله ولرسوله فيما جاء به من أمر ونهي. فالتوحيد تطهير الباطن من الشرك الجلي والخفي، والتقوى: حفظ الجوارح من المخالفة في السر والعلانية، وهاتان الخصلتان هما أساس الطريق ونهايته. والله تعالى أعلم.


قلت: {آية}: حال، والعامل فيها: الإشارة، و{بيوتًا}: حال من الجبال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أرسلنا {إلى ثمود}؛ قبيلة أخرى من العرب، سُموا باسم أبيهم الأكبر: ثمود بن غابر بن إرم بن سام، وقيل: سُموا به؛ لقلة ما بهم من التثميد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجرَ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «لاَ تدخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أن تَكُونُوا بَاكِينَ؛ مخافة أن يُصيبَكم مِثلُ مَا أصَابَهُم».
أرسلنا إليهم {أخاهم صالحًا}، وهو صالح بن عُبَيد بن أسف بن ماسَح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وقال وهب بن منبه: بعث الله صالحًا حين راهق الحلم. وقال الكواشي: أنه مات ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه ينذرهم عشرين. اهـ.
{قال يا قوم اعبدوا ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم}؛ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، وهي: {هذه ناقة الله لكم آية}؛ لأنها جاءت من عند الله بلا وسائط وأسباب، على ما سيأتي، {فذروها} أي: اتركوها، {تأكل في أرض الله} العشب، {ولا تمسوها بسوء}، نهى عن المس، الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى؛ مبالغةً في الأمر وإزاحة للعذر. قاله البيضاوي. {فيأخذكم} إن مستموها بسوء {عذاب أليم}، وهو الهلاك بالصيحة.
{واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم} أي: هيأ لكم القرار {في الأرض} أي: أرض الحجاز، {تتخذون من سهولها قصورًا} أي: تبنون مما انبسط منها قصورًا، فالسهل ضد الجبل، {وتنحتون الجبال بيوتًا} أي: تنجُرون بيوتًا من الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء. {فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} بالمعاصي والكفر.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} عن الإيمان، {للذين استضعفوا} أي: للذين استضعفوهم واستذلوهم أعني لمن آمن منهم: {أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه}؟، قالوه على وجه الاستهزاء، {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون}، لم يقولوا في الجواب: نعم؛ تنبيهًا على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي رأي، وإنما الكلام فيمن آمن ومن كفر؛ فلذلك قال: {قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون}؛ على المقابلة، ووضعوا {آمنتم به} موضع {أُرسل به}؛ ردًا لما جعلوه معلومًا مسلمًا.
{فعقروا الناقة}؛ نحروها، أسند إلى جميعهم فعل بعضهم كما يأتي؛ لأنه كان برضاهم، {وعتوا عن أمر ربهم} أي: استكبروا عن امتثال أمره، وهو ما بلغهم صالح بقوله: {فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء}، {وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة} أي: صيحة جبريل، {فأصبحوا في دارهم جاثمين}؛ باركين على ركبهم، ميتين.
رُوِي: أنهم بعد عادٍ عمروا بلادهم وخلفوهم، وكثروا، وعُمروا أعمارًا طِوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خِصب وسعة، فتعوا وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أشرافهم فأنذرهم، فسألوه آية، فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ فقالوا: اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا، فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم، فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها: الكاثبة، قال له: أخرج من هذه الصخرة ناقةً مخترجة جوفاء وبراء، فإن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ ذلك لتؤمنن؟ قالوا: نعم، فصلى، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تَمَخَّضَ النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عُشَرَاءَ، جوفاء وبراء كما وَصَفُوا، وهم ينظرون، ثم أنتجت ولدًا مثلها في العظم، فآمن به جندع في جماعة، ومنع الناس من الإيمان: ذُؤاب بن عمرو، والحباب صاحب أصنامهم، ورباب كاهنهم.
فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر، وترد الماء غِبًّا، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تنفحج، فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم، فيشربون ويدخرون، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره؛ فشق ذلك عليهم، فزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، وعاقرها: الأحمر، واسمه قدار استعان برجل آخر، فلما شربت أختبأ لها في جانب تل، فضربها صاحبه بالسهم، وعقرها قدار بسيفه، واقتسموا لحمها، فرقى ولدها جبلاً اسمه: قارة، فرغى ثلاثًا، ودخل صخرة أمه، فقال لهم صالح عليه السلام: أدركوا الفصيل، عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه، فقال لهم صالح عليه السلام: تصبح وجوهكم غدًا مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ويصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان ضحوة اليوم الرابع: تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
{فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحتُ لكم ولكن لا تُحبون الناصحين}، ظاهره: أن توليته عنهم بعد أن أبصرهم جاثمين؛ ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم، كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، وقال لهم: {قد وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا، فَهَل وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًا؟} أو ذَكَرَ ذلك على سبيل التحسّر عليهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: كل ما قصّ علينا الحقّ جلّ جلاله من قصص الأمم الماضية، فالمراد به: تخويف هذه الأمة المحمدية وزيادة في يقينهم، فالواجب على من أراد السلامة في الدارين أن يتمسك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، ويتحرى في ذلك جهده؛ يقصد بذلك رضا الله ورسوله. {وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إلىَ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى النعيم المقيم. والله تعالى أعلم.


قلت: {شهوة}: مفعول له، أو مصدر في موضع الحال.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} أرسلنا {لوطًا إذ قال لقومه}،؛ واعظًا لهم: {أتأتون الفاحشةَ} أي: اللواط؛ توبيخًا وتقريعًا على تلك الفعلة المتناهية في القبح، {ما سبقكُم بها من أحدٍ من العالمين} أي: ما فعلها أحد قبلكم، وبخهم على أمرين: إتيان الفاحشة، واختراعها أولاً، ثم قال لهم: {إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء}، وصفهم بالشهوة البهيمية، وفيه تنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة: طلب الولد وإبقاء النوع لا قضاء الوطر، {بل أنتم قومٌ مسرفون} أي: عادتكم السرف في كل شيء، حتى تجاوزتم ما أحل الله لكم من النساء إلى ما حرم عليكم من إيتان الذكور، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها؛ وهي اعتياد الإسراف في كل شيء، أو عن الإنكار عليها إلى الذم لم على جميع معايبهم، أو عن محذوف، مثل: لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف. قاله البيضاوي.
{وما كان جواب قومه} له حين وعظهم، {إلا أن قالوا أخرجوهم} أي: لوط ومن آمن به، {من قريتكم} أي: ما أجابوه بشيء يصلح للجواب، لكن قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه من قريتهم، والاستهزاء بهم، حيث قالوا: {إنهم أُناس يتطهرون} من الفواحش.
قال تعالى: {فأنجيناه وأهله} أي: من آمن معه، {إلا امرأته} فإنها كانت تسر الكفر؛ {كانت من الغابرين} أي: الباقين في ديارهم فهلكوا وهلكت معهم.
{وأمطرنا عليهم مطرًا} أي: نوعًا عجيبًا من المطر، بيَّنه بقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [الحِجر: 74] {فانظر كيف كان عاقبةُ المجرمين}.
رُوِي أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر عمه إبراهيم إلى الشام، ونزل بالأردن، وكان هاجر هو معه، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، ليدعوهم إلى الله، وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها، فقلع جيريل مدينتهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر الحجارة على ما قربهم من القرى، وسيأتي في سورة هود بقية قصتهم، إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما أهلك اللهُ قوم لوط حيث آثروا شهوة نفوسهم على عبودية ربهم، وغلبهم الطبع البهيمي على مقتضى العقل الصافي، وقد تقدم الغزالي: إن الشَّره إلى الوِقاع من جملة المهلكات. فعلى المريد أن يصفي قصده، ولا ينزل إلى أرض الحظوظ إلا بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، ولا ينزل بالشهوة والمتعة. وقد قال عليه السلام: «المؤمن يأكل بشهوة أهله» فلا يأتي ما أحلَّ اللهُ لَهُ مِن متعة النِّساء إلا قيامًا بحقِّ الغَير وطلبًا للنسلِ. وبالله التوفيق.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12